كلمة البطريرك يوحنا العاشر في الذكرى العاشرة…



2024-06-06
كلمة البطريرك يوحنا العاشر
في الذكرى العاشرة لتأسيس فرع جامعة البلمند في سوق الغرب، 6 حزيران 2024
 
أيها الحضور الكريم،
في غسق ثمانينيّات القرن الماضي أرادت كنيسة أنطاكية الأرثوذكسية أن تكون لها مؤسسةٌ تختصر بعضاً من رسالةٍ فكانت جامعة البلمند وربضت على التلة المشرفة على طرابلس، يومها قيل للبطريرك إغناطيوس الرابع هزيم: أتبني جامعة والدمار يحيط بلبنان من كل صوب؟ فأجاب: إن كان قدر البعض أن يدمر فإن قدرنا أن نبني ونبقى.
ومنذ عشر سنوات وفي منطقةٍ تغلي وتغلي، أعادت كنيسة أنطاكية التأكيد على دورها فكان هذا الفرع في سوق الغرب بتعاونٍ مع معالي الأستاذ وليد بيك جنبلاط الذي تبرع بالأرض. كان هذا الفرع استمراراً لديمومة رسالةٍ أطلقتها كنيسة الروم الأرثوذكس من البلمند وأرادتها مشعةً على كل مناطق وأطياف النسيج اللبناني. وها نحن ههنا لنُكرّر ونؤكد أننا ههنا باقون لأننا نعشق هذه الأرض وأننا مجبولون بعشق لبنان ومعجونون بشموخ جبله الذي يناجي وجه ساكن السماء.
من سوق الغرب التي كانت يوماً ما، ولا أريد أن أقولها، كانت خط تماسّ، نطل اليوم في هذه الذكرى في وهج لقيا وتلاقٍ. نطل اليوم لنحكي تاريخ جامعة البلمند ونروي شيئاً من رسالتها التي تختصر عيشنا وفلسفة وجودنا في هذه الديار. نطل اليوم لنرسم من رحابة البلمند حكاية عشق البلمند لتراب لبنان ولننقل فلسفة البلمند المشرقية التي تمتد إلى الشرق والعالم. نطل اليوم لنقول إننا أبناء اللقيا وأبناء تلك الوجودية التي ترى في الآخر وجه الله. نطل من جبل لبنان لنناجي إخوتنا من كل الأطياف. نطل من صرحٍ اختار له العلم نبراساً منيراً كل طيف. نطل من البلمند الجامعة التي تختصر شيئاً من رسالة كنيستنا الأنطاكية على مر ألفي عام. نحن ههنا لنروي حكاية أنطاكية المسيحية التي صبغت الدنيا بلقب "مسيحيين" وكلَمَتْ الكون ببشرى الفرح على لسان ذلك الإنجيلي الذي قال: في البدء كان الكلمة.
من سوق الغرب، من جيرة دير مار جرجس، من حيث انتقل إلى جوار باريهِ ذاتَ خريفٍ من عام 1928 البطريرك غريغوريوس الرابع حداد ابن عْبَيْهْ، نطل اليوم ونستذكر ذاك الراحل الكبير الذي يختصر شيئاً من عظمة رسالة كنيسة أنطاكية ويختزل في روحه شيئاً مما نحاول أن نجسده دائماً في جامعة البلمند. من هنا نستذكر كلماته في زحلة سنة 1911:
"إنني أحبّ أبناء وطني من جميع المذاهب على السواء. ولا فرق بينهم عندي. ألستُ وإياهم أبناء أب واحد وأم واحدة. أوَلسنا جميعاً صنعة خالق واحد. أوَلسنا نسكنُ أرضاً واحدة ونستنير بضوء شمس واحدة ونستظلُّ بسماء واحدة وترفرف فوقنا رايةٌ واحدة هي راية الوطن العزيز؟".
من هذه الكلمات التي تختصر رسالة كنيستنا نطل عليكم. من كلمات ذاك الحبر الذي رأى فيه وجهَ سُكّانِ الجبلِ كلُّ من نظروه وما ميزوا فيه محيّاهُ إلى أي لونٍ انتمى، نطل اليوم لنؤكد على رسالتنا التي تتجاوز المصالحة وتتخطاها إلى أن تبلغ قيمَ العيش الواحد والمواطنة في زمنٍ يكثر فيه الحديث عن الفئوية القتالة وعن الفدرالية المقنّعةِ وعن الانعزالية. نطل اليوم لنقول إننا كروم أرثوذكس منتشرون في كل الأماكن وتربطنا بالجميع أطيب العلاقات ولا نعرف إلى الانعزال سبيلاً ولا إلى الفئوية طريقاً في حفاظٍ تامٍّ على أصالتنا النابذة للتقوقع والرافضة للذوبان في آن. وبحكم موقعنا هذا كنا ونبقى وسنبقى جسور تواصل يوم سكتت وتسكت لغة الحوار وعلت وتعلو لغةٌ أخرى.
ومن هنا. ومن موقعنا هذا، ندعو كما دعونا دائماً إلى انتظام عمل المؤسسات الدستورية في لبنان. والضامن الوحيد لهذا هو انتخاب رئيسٍ للجمهورية وبأسرع وقت. ندعو النواب والمسؤولين عموماً إلى تحمل مسؤوليتهم التاريخية وانتخاب رئيسٍ للجمهورية. نقول هذا وعيننا على لبنان وعلى المنطقة التي تشهد فترةً عصيبةً لا بل مفصليةً. نقول هذا وعيننا على هذا البلد الذي يتوق إلى السلام ويعمل لدرء توسّع الحرب التي تطل برأسها بين الفينة والأخرى. نقول هذا وعيننا على غزة الجريحة وعلى فلسطين المصلوبة على قارعة المصالح. أما آن لجلجلة هذا الشعب الفلسطيني أن تجد درب قيامة؟ نقول هذا ونعي أن لبنان جزءٌ من خضمٍّ لا يمكن له أن ينفصل عنه. نقول هذا ونعي أن الجغرافية تلعب الدور الأكبر في رسم خارطة السياسة وأن لبنان ليس جزيرةً معزولةً لا بل قلب عالمٍ عربيٍّ ومشرقيٍّ وواحة حريةٍ وثقافةٍ أضاءت على الشرق وعلى العالم أجمع. نقول هذا وعيننا على سوريا التي يدفع إلى الآن مواطنُها ومن كل الأعراق ضريبة الحصار الاقتصادي الخانق تشرداً وهجرةً وتهجيراً بعد أن دفع ضريبة الحرب عنفاً وقتلاً وتهجيراً وخطفاً. نعلي صرختنا اليوم ودول الجوار والمنطقة كلها تدفع ضريبة آثار الهجرة بينما يتباكى العالم متجاهلاً السبب الأساس وهو الحصار الخانق الذي يؤثر على الجميع من حكومات وشعوب مجاورة. نقول هذا وعيننا على مسيحيي هذا الشرق وعلى سواهم من مكوناتٍ والذين هم وإياهم ركاب قاربٍ واحدٍ بمعزلٍ عن منطق الأكثرية والأقلية والذين يدفعون ضريبة الحروب وفقدان الاستقرار من حياتهم وأقدارهم. وما قضية مطراني حلب يوحنا إبراهيم وبولس يازجي المخطوفين وسط صمتٍ دولي مستهجن منذ نيسان 2013 إلا نزرٌ يسيرٌ من كيفية امتهان كرامة هذا الإنسان ومن استنسابية المطالبة بحقوق الإنسان وفقاً للمصالح الكبرى.
جامعة البلمند سفيرتنا إلى قلب إنسانٍ مشرقي أحببناه من كل الأطياف. جامعة البلمند سفيرتنا إلى الشرق الذي نستمد كينونتنا من اسمه. هذه الجامعة سفيرتنا إلى لبنان وإلى اللبنانيين من كل الأطياف. أردناها في البلمند رابضةً إلى جانب الدير الخالد وأردناها في بيروت وفي عكار وأردناها ههنا في ظلال أرز الشوف. أردناها حاملةً لإرث كنيسةٍ وجماعةٍ مسيحيةٍ، متأصلةٍ في الماضي ومستشرفةٍ للمستقبل. أردناها متسلحةً بلغة حضارة اليوم وناهلةً من علوم الأقدمين. أردناها عيناً على الحضارة العربية والأوروبية ومجساً لسائر العلوم التطبيقية والنظرية. أردناها ناشرةً أجنحة احتضانها للجميع ومن كل الأطياف. وفي هذا المجال، لاقيتمونا، معالي الوزير. قدمتم الأرض وأردتم أن تكون جامعةُ البلمند حاضرةً ههنا في سوق الغرب. نذكركم بالخير ونذكر أباكم المرحوم كمال جنبلاط وندعو بالخير لتيمور. ونذكر أيضاً الابن الروحي أنيس نصار الذي كانت له مساهمته القيمة وسعيهُ المشكور لكي يخرج هذا الصرح من الحلم إلى الواقع. ولإخوتنا في طائفة الموحدين الدروز، أبناء بني معروف الأكارمِ أطيب تحية في أطيب أرض وأطيب لقيا. أذكر بالخير سماحة شيخ العقل سامي أبي المنى الذي تربطنا به أطيب علاقة وأذكر بالخير أيضاً يوم زرنا خلوات البياضة وتلمّسنا كيف يناجي الإنسان ربه في ساعة صفاءٍ وكيف يجد في أخيه الإنسانِ خير محكٍّ لمصداقية التماسه رحماتِ ومرضاةَ الله القدوس.
عاشت سوق الغرب وعاش الجبل الأشم. عاشت جامعةُ البلمند سفيرةً إلى قلب كل مستنيرٍ. عشتم، وعاش لبنان.